الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.النوع العاشر: مما يحتاج الكاتب إلى وصفه الأجسام الأرضية: الصنف الأول: الجبال والأودية والقفار: فأما الجبال فهي أوتاد الأرض، أرسى الله تعالى بها الأرض حيث مادت لما دحاها الله تعالى على الماء. وقد روي أن الكعبة كانت رابية حمراء طافية على وجه الماء قبل أن يدحو الله الأرض، وأن الأرض منها دحيت، فلما مادت وأرسيت بالجبال كان أول جبل أرسي منها جبل أبي قبيسٍ بمكة المشرفة، فلذلك هو أقرب الجبال من الكعبة مكاناً. وقد نقل أن قاف جبل محيط بالدنيا عنه تتفرع جميع جبال الأرض، والله أعمل بحقيقة ذلك. وتوصف الجبال بالعظمة في القدر والعلو وصعوبة المسلك، وما يجري مجرى ذلك. وأما الأودية فهي وهاد في خلال الجبال جعلها الله تعالى مجاري للسيل ونبات الزرع ومدارج الطرق وغير ذلك. وتوصف بالاتساع وبعد المسافة والعمق، وربما وصفت بخلاف ذلك. وأما القفار فهي: البراري المتسعة الأرجاء الخالية من الساكن. توصف بالسعة وبعد المسافة وقلة الماء والإيحاش وصعوبة المسلك، وما يجري مجرى ذلك. الصنف الثاني: المياه الأرضية: وهي على ضربين: الضرب الأول الماء الملح: ووقع في لغة الإمام الشافعي رضي بالله عنه الماء المالح؛ وهو أحد العناصر الأربعة، وسيأتي في الكلام على الأرض في المقالة الثانية أنه محيط بالأرض من جميع جهاتها إلا ما اقتضته الحكمة الإلهية لعمارة الدنيا من كشف بعض ظاهرها الأعلى، وأنه تفرعت منه بحار منبثة في جهات الأرض لتجري السفن فيها بما ينفع الناس. وقد ذكر الحكماء أن في الماء الملح كثافةً لا توجد في الماء العذب، ومن أجل ذلك لا ترسب فيه الأشياء الثقيلة كما ترسب في الماء العذب، حتى يقال: أن السفن التي تغرق في البحر الملح لا تبلغ أرضه بخلاف التي تغرق في الأنهار فإنها تنزل إلى قعرها، وشاهد ذلك أنك إذا طرحت في الماء العذب بيضة دجاجة ونحوها غرقت فيه، فإذا أذبت في ذلك الماء ملحاً بحيث يغلب على الماء وطرحت فيه البيضة عامت، وقد اختلف في الماء الملح هل هو كذلك من أصل الخلقة أو عرضت له الملوحة بسبب مالا قاه من سبخ الأرض على مذهبين. ومن خصائص البحر الملح أنه في غاية الصفاء حتى إنه يرى ما في قعره على القرب من شطه ويوصف البحر بالسعة والطول والعرض وكثرة العجائب حتى يقال في المثل: حدث عن البحر ولا حرج. الضرب الثاني: الماء العذب: قالت الحكماء: والسبب فيه أن الأبخرة تتصاعد من قعر الأرض فتدخل في الجبال وتحتبس فيها ولا تزال تتكامل ويتحصل منها مياه عظيمة فتنبعث لكثرتها. وهو على ثلاثة أنماط: النمط الأول: ماء الأنهار، وهي ما بين صغار وكبار وقريبة المدى وبعيدته؛ وقد وردت الأخبار بأن أفضلها خمسة أنهار، وهي: سيحون، وجيحون، والدجلة، والفرات، ونيل مصر، والنيل أفضل الخمسة وأعذبها وأخفها ماء على ما سيأتي ذكره في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى. وفي الأنهار الكبار تسير السفن. النمط الثاني: العيون، وهي مياه تنبع من الأرض وتعلو إلى سطح الأرض ثم تسرح في قني بقد حفرت لها، وهي منبثة في كثير من الأقطار. النمط الثالث: البئار، وهي حفائر تحفر حتى ينبع الماء من أسفلها ويرتفع فيها ارتفاعاً لا يبلغ أعلاها. وقد اختلف في الماء الذي نبع من الأرض هل هو الذي نزل من السماء أو غيره، فذهب ذاهبون إلى أنه هو الذي نزل من السماء محتجين لذلك بقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء بقدرٍ} الآية. وذهب آخرون إلى أن الذي نبع من الأرض غير الذي نزل من السماء محتجين بقوله تعالى: {ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمرٍ * وفجرنا الأرض عيوناً} ويوصف الماء للاستحسان بالعذوبة، والصفاء، والرقة، والخفة، وشدة البرد؛ وفي معناه الشبم، ويشبه في شدة البرد بالزلال وهو ما يتربى داخل الثلج في تجاويف توجد فيه فيكون من أشد الماء برداً. الصنف الثالث: النبات: وفيه ثلاثة مقاصد: المقصد الأول في أصل النبات: قد ذكر المسعودي في مروج الذهب: أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض خرج من الجنة ومعه ثلاثون قصيباً مودعة أصناف الثمر، منها عشرة لها قشر وهي الجوز، واللوز، والجلوز، والفستق، والبلوط، والشاه بلوط، والصنوبر، والنارنج، والرمان، والخشخاش؛ ومنها عشرة لثمرها نوى وهي الزيتون، والرطبوالمشمش، والخوخ، والإجاص، والغبيراء، والنب، والعناب، ومخيطىوازعرور؛ ومنها عشرة ليس لها قشر ولا نوى وهي التفاح، والسفرجل، والكمثري، والعنب، والتين، والأترج، والخرنوب، والتوت، والقثاء، والبطيخ. المقصد الثاني فيما تختص به أرض دون أرض من أنواع النبات: اعلم ان النبات منه ما يوجد في كثير من الآفاق، ومنه ما يختص ببعض الأماكن دون بعض، وقد حكى أبو بكر بن وحشية في كتاب الفلاحة النبطية: أن ببلاد المغرب الأقصى شجرة ترتفع نصف قامة أن أرجح، ورقها كورق الغار، إذا عمل منها إكليل ولبسه الرجل على رأسه ومشى أو عدا أو عمل عملاً لم ينم مادام ذلك الإكليل على رأسه، ولا يناله من ضرر السهر وضعف القوة ما ينال من سهر وعمل. وفي بلاد إفرنجة شجرة إذا قعد الإنسان تحتها نصف ساعة مات، وإن مسها ماس أو قطع منها غصناً أو ورقة أو هزها مات. قلت: ومما يختص بأرض دون أرض البلسان وهو: شجرة لطيفة على نحو ذراع تتفرع فروعاً، لا تنبت في سائر الدنيا إلا في الديار المصرية بموضع مخصوص من بلدة يقال لها المطرية، على القرب من مدينة عين شمس، وتسقى من بئر هناك؛ ويقال: إنه اغتسل فيها المسيح عليه السلام، ولذلك النصارى يعظمون البلسان وتتبركون به. المقصد الثالث في ذكر أصناف النبات التي أولع الكتاب والشعراء بوصفها وتشبيهها، وهي على أضرب الضرب الأول ما له ساق: وهو الشجر، وأكثر ما أولع أهل النظم والنثر بثمارها أو نورها في الوصف والتشبيه نثراً ونظماً، كاللوز، والفستق، والجلوز وهو البندق، والشاة بلوط وهو القصطل، والصنوبر، والرمان والجلنار، والإجاص، والقراصيا، والزعرور والخوخ، والمشمش، والعناب، النبق، والعنب، والتين، والتوت، والتفاح، والسفرجل، والكمثري، واللفاح، والخروب، والأترج، والنارنج، والليمون، والطلع، البلح، والبسر، والتمر، والرانج وهو جوز الهند؛ والتجار يسمونه النارجيل. وربا وقع الوصف والتشبيه لبعض أصول الشجر، كالنخل والكرم وغيرها. الضرب الثاني ما ليس له ساق: وقد أولعوا بالوصف والتشبيه منه، فمن ذلك: الزرع من البر والعشير ونحوهما، ويتبع ذلك نور الباقلاء، وكذلك الخشخاش، والكتان، والبطيخ الهندي وهو الخضر، والخراساني وهو العبدلي؛ نسبة إلى عبد الله بن طاهر، فإنه أول من نقله من خراسان إلى مصر، والبطيخ الصيني وهو الأصفر، والرسنيتو وهو المعروف باللفاح، والقثاء، والخيار، الباذنجان، والسلجم وهو اللفت، والجزر، والثوم، البصل، الكراث، والريباس، والهليون، النعناع، وغير ذلك. الضرب الثالث الفواكه المشمومة: والذي أولع بوصفه وتشبيهه منه الورد على اختلاف ألوانه: من أحمر، وأبيض، وأصفر، وأزرق، وأسود؛ والنسرين، والبان، والخلاف والنيلوفر، والبنفسج، والنرجس، الياسمين، والآس، والزعفران، والريحان. الضرب الرابع الأزهار: والذي وقع الولوع بوصفه وتشبيهه من ذلك الخيري وهو المنثور من أصفر أو أزرق، والسوسن، والآذريون وهو أصفر له ريح، والخزم وهو الخزامى، والشقيق، ويسمى: الشقاق، ويقال له شقائق النعمان، لأن النعمان بن المنذر حمى ظهر الكوفة وبه هذا النبات فعرف به، والبهار وهو نور أحمر، والأقحوان، وغير ذلك. الضرب الخامس الرياض: وهي الأماكن المشتملة على الأشجار، والأزهار، والمياه الجارية ونحو ذلك. وقد اتفق جوابر الأرض على أن منتزهات الأرض أربعة مواضع وهي: سغد سمرقند، وشعب بوان، ونهر الأبلة، وغوطة دمشق. وقد أكثر الشعراء في وصف الرياض وولع الكتاب بمثل ذلك. .الطرف الثالث من الباب الأول من المقالة الأولى في صنعة الكلام ومعرفة كيفية إنشائه ونظمه وتأليفه: .المقصد الأول في الأصول التي يبنى الكلام عليها: .الأصل الأول: المعرفة بالمعاني: الوجه الأول في شرف المعاني وفضلها: اعلم أن المعاني من الألفاظ بمنزلة الأبدان من الثياب، فالألفاظ تابعة، والمعاني متبوعة، وطلب تحسين الألفاظ إنما هو التحسين المعاني، بل المعاني أرواح الألفاظ وغايتها التي لأجلها وضعت، وعليها بنيت؛ فاحتياج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى أشد من احتياجه إلى تحسين اللفظ، لأنه إذا كان المعنى صواباً واللفظ منحطاً ساقطاً عن أسلوب الفصاحة كان الكلام بمنزلة الإنسان الميت الذي لا روح فيه؛ ولو كان على أحسن الصور وأجملها. قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر: ومما رأيته من المدعين لهذا الفن الذين حصلوا منه على القشور، وقصروا معرفتهم على الألفاظ المسجوعة الغثة، التي لا حاصل وراءها، أنهم إذا أنكرت هذه الحالة عليهم؛ وقيل لهم: إن الكلام المسجوع ليس عبارة عن تواطؤ الفقر على حرف واحد فقط، إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن يأتوا به من غير كلفة، وإنما هو أمر وراء هذا، وله شروط متعددة، فإذا سمعوا ذلك أنكروه لخلوهم عن معرفته، وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة، وهدوا إلى طريق المعاني، يقولون: لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة؛ فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ، ولم يعتنوا بالمعاني اعتناءهم بالألفاظ. فلم يكفهم جهلهم فيما أرتكبوه حتى ادعوا الأسوة بالعرب فيه فصارت جهالتهم جهالتين. قال: ولم يعلموا أن العرب، وإن كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأشرف قدراً في نفوسها. ولما كانت الألفاظ عنوان المعاني وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها، وزينوها وبالغوا في تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد. ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعاً لذ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعاً لم يأنس به أنسه في حالة السجع؛ فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها، فلا تظن أن العناية أذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، فصار ذلك كإبراز صورة الحسناء في الحلل والأثواب المحبرة، فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما شوه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه. قال أبو هلال العسكري رحمه الله: ومن عرف ترتيب المعاني واستعمل الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيأ له فيها من صنعه الكلام ما تهيأ له في الأولى. ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي، وحولها إلى اللسان العربي. فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من تكمل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ والمعرفة بوجوه الاستعمال. قال في المثل الثائر: واعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان؛ غير أن الحصر كلي لا جزئي، ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرع عليها من الفريعات التي لا نهاية لها، لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم، ولا يفتقر إليه؛ فإن البدوي البادي راعي الإبل ما كان يمر شيء من ذلك بفهمه، ولا يخطر بباله، ومع هذا؛ فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعراً أو تكلم نثراً. قال: ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكره لأبي علي بن سينا في الخطابة والشعر، وذكر ضرباً من ضروب الشعر اليوناني يقال له اللوغاذيا، وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي ووقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته، فإنه طول فيه وعرض كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل هذا الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئاً، ثم مع هذا جميعه فإن معول القوم فيما يذكر من الكلام الخطابي أنه يورد على مقدمتين ونتيجة، وهذا مما لم يخطر لأبي علي بن سينا ببال فيما صاغه من شعر أو كلام مسجوع عمله، وعند إفاضته في صوغ مصاغه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال، ولو أنه فكر أولاً في المقدمتين والنتيجة، ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك، لما أتى بشيء ينتفع به، ولطال الخطب عليه. قال: بل إن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم، لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ولا نتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع وتطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر، وهي كما يقال: الوجه الثاني في تحقيق المعاني ومعرفة صوابها من خطئها وحسنها من قبحها. وقد قسم صاحب الصناعتين المعاني على خمسة أصناف: الصنف الأول ما كان من المعاني مستقيماً حسناً كقولك رأيت زيداً وهو أعلى الأنواع الخمسة وأشرفها قال في الصناعتين: والمعنى الصحيح الثابت ينادي على نفسه بالصحة، ولا يحوج إلى التكلف لصحته حتى يوجد المعنى فيه خطيباً. فأما المعنى المستقيم الجزل من النظم، فمن الوعظ قول النمر بن تولب يذم طول الحياة: وقول أبي العتاهية في الوعظ بزوال العز والنعمة بالموت: وفي وصف الأيام قول أبي تمام: ومن المدح قول أمية بن أبي الصلت: وقول أبي تمام: وقول الآخر: ومن الفخر قول معن بن أوس. وقول الآخر: وقول الشنفرى: ومن الغزل قول جرير: وقول النظام: ومن التشبيب قول القائل: وقول الأخر: ومن الحكمة قول المتنبي: وقول الآخر: وقول الآخر: ومن الهجو قول الطرماح في تميم: وقول الآخر: إلى غير ذلك من معاني الشعر الحسنة البهيجة الرائقة. ومما ينخرط في هذا السلك من النثر ما يحكى أن أعرابياً وقف على عبد الملك بن مروان قبرملة اللوى فقال: رحم الله امرأ لم تمج أذناه كلامي، وقدم معاذه من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة، والحال مسغبة، والحياء زاجر، يمنع من كلامكم، والفقر عاذر، يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرأ أمر بمير، أو دعا بخير. ومعاني القاضي الفاضل هي التي ترقص لها القلوب، وتطرب لها الألباب، ويهجم قبولها على النفوس من غير حاجب ولا بواب؛ فمن ذلك قوله: يا بني أيوب، لو ملكتم الدهر لا متطيتم لياليه أداهم، وقلدتم أيامه صوارم، وأفنيتم شوسه وأقماره في الهبات دنانير ودراهم؛ وأيامكم أعراص وماث فيها على الأموال مآتم، والجود في أيديكم خاتم، ونفس حاتم في نقش ذلك الخاتم. فهذا هو السحر الحلال، والمعاني التي تخضع لها شم الجبال، ولا يقال فيه قيل ولا قال. الصنف الثاني ما كان مستقيماً قبيحاً كقولك قد زيداً رأيت قال في الصناعتين: وإنما قبح لأنك أفسدت نظام اللفظ بالتقديم التأخير. وهذا النوع يسميه علماء المعاني: التعقيد. وسماه ابن الأثير في المثل السائر المعاظة المعنوية، وهو تقديم ما الأولى به التأخير، كتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على الموصوف، وتقديم الصلة على الموصول ونحو ذلك؛ وهو من المذموم المرفو ض عند أهل الصنعة، لأن المعنى يختل به ويضطرب. قال في المثل السائر: وهو ضد الفصاحة، لأن الفصاحة هي الظهور والبيان، وهذا عارٍ عن هذا الوصف؛ فمن ذلك قول بعضهم: يريد فأصبحت بعد بهجتها فقراً كأن قلماً خط رسومها فقدم خبر كأن وهو خط عليها فجاء مختلاً مضطرباً، وأقبح منه أكثر اختلالاً قول الفرزدق: يريد إلى ملك أبوه ما أمه من محارب، والمعنى ما أم أبيه من محارب، يمدحه بذلك ذماً لمحارب. وكذلك قوله، يمدح خال هشام بن عبد الملك: يريد وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبوه؛ وهو خاله، فلما استعمل فيه التقديم والتأخير في غير موضعه جاء مشوهاً رثا كما تراه. قال الوزير ضياء الدين بن الأثير: وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيراً كأنه يقصد ذلك ويتعمده لأن مثله لا يجيء إلا متكلفاً مقصوداً، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد؛ ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع، إذ المقصود من الكلام ذهب المراد به. ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية الرومية وغيرهما. الصنف الثالث ما كان مستقيماً ولكنه كذب كقولك حملت الجبل وشربت ماء البحر وما أشبه ذلك واعمل أن المعاني المستعملة في الشعر والكتابة أكثرها جارٍ على هذا الأسلوب خصوصاً المعاني الشعرية، فإنه مقدمات تخييلية توجب في النفس انقباضاً وانبساطاً على ما هو مقرر في علم النطق. وقد قال في الصناعتين: إن أكثر الشعر مبني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة، والنعوت الخارجة عن العادة، والألفاظ الكاذبة: من قذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله. قال: وليس يراد منه إلا حسن اللفظ وجودة المعنى؛ فهذا الذي سوغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه. وقيل لبعض الفلاسفة: فلان يكذب في شعره، فقال: يراد من الشاعر حسن الكلام، والصدق يراد من الأنبياء عليهم السلام. قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع رحمه الله في كتابه تحرير التحبير: وأنا أقول قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون إن أجود الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه، ويحتجون بما جرى للنابغة الذبياني مع حسان بن ثابت رضي الله عنه في استدراك النابغة عليه تلك المواقع الحيجية في قوله: فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة؛ والقصة مشهورة. قال: والصواب مع حسان وإن روي عنه انقطاعه في يد النابغة؛ وقوم يرون المبالغة من عيوب الكلام، ولا يرون محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق، وجاء على نهج الحق؛ ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى، أو يفرع معنى من معنى؛ أو يحلي كلامه شيئاً من البديع، أو ينتخب ألفاظاً موصوفة بصفات الحسن، ويجيد تركيبها، فإذا عجز عن ذلك كله عدل إلى المبالغة يسد بها خلله ويتم نقصه؛ لما فيها من التهويل على السامع، ويدعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها عن حد الإمكان إلى حد الامتناع. قال: وعندي أن هذين المذهبين مردودان، أما الأول فلقول صاحبه إن خير الكلام ما بولغ فيه، وهذا قول من لا نظر له، لأنا نرى كثيراً من الكلام والأشعار جارياً على الصدق المحض خارجاً مخرج البحث، وهو في غاية الجودة، ونهاية الحسن، وتمام القوة؛ وكيف لا والمبالغة ضرب واحد من المحاسن، والمحاسن لا تحصر ضروبها؛ فكيف يقال: إن هذا الضرب على انفراده يفضل سائر ضروب المحاسن على كثرتها! وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان، ومن كان مذهبه توخي الصدق في شعره غالباً، ليس فوق أشعارهم غاية لمترق، ألا ترى إلى قول زهير: وإلى قول طرفة: وإلى قوله: وإلى قوله الحطيئة: فإنك تجد هذه الأشعار في الطبقة العليا من البلاغة، وإن خلت من المبالغة؛ والذي يدل على أن مذهب أكثر الفحول ترجيح الصدق في أشعارهم على الكذب ما روي عن الحرورية امرأة عمران بن حطان قاضي الصفرية من الخوارج أنها قالت له يوماً: أنت أعطيت الله تعالى عهداً ألا تكذب في شعرك، فكيف قلت: فقال: يا هذه، إن هذا الرجل فتح مدينة وحده وما سمعت بأسد فتح مدينة قط، وهذا حسان يقول: على أن هؤلاء الفحول وإن رجحوا هذا المذهب لا يكرهون ضده، ولا يجحدون فضله، وقلما تخلو بعض أشعارهم منه؛ إلا أن توخي الصدق كان الغالب عليهم، وكانوا يكثرون منه، ومن أكثر من شيء عرف به، كما أن النابغة ومن تابعه على مذهبه لا يكرهون ضد المبالغة، وإلا فكل احتجاج جاء به على النعمان في الاعتذار جار مجرى الحقيقة كقوله: فعائب الكلام الحسن بترك المبالغة فقط مخطيء، وعائب المبالغة على الإطلاق غير مصيب، وخير الأمور أوساطها. والتحقيق أن المبالغة إذا لم تخرج عن حد الإمكان، ولم تجر مجرى الكذب المحض، فإنها لا تذم بحال، كقول قيس بن الخطيم: فإن ذلك من جيد المبالغة، إذا لم يكن خارجاً مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية في وصف الطعنة، وكذلك قول أبي تمام: فإنه لم يقنع بصحيح المبالغة وقربها من الوقوع فضلاً عن الجواز بتقديم كاد، حتى قال: لو تركت، قال: وهذا أصح بيت سمعته في المبالغة وأحسنه؛ وعلى حده ورد قول شاعر الحماسة، وقد بالغ في مدح ممدوحه فقال: فإن هذا الشاعر ألقى بيده وأظهر عجزه، واعترف بقصوره عن شكر بر هذا الممدوح، وفطن أنه لو اقتصر على كثرة بره لاحتمال أن يكون لضعف مادتك عن الشكر، إذ لا يلزم من عجز الإنسان عن شيء تعظيم ذلك الشيء، ولا بد لاحتمال أن يكون العجز لضعف الانسان، فاحترز عن ذلك بقوله: وما فوق شكري للشكور مزيد ثم تمم المعنى بأن قال للشكور للمبالغة في الشكر، فإن شكوراً معدول عن شاكر للمبالغة كما تقدم، ثم أطهر عذره في عجزه بأن قال في البيت الذي يليه: ثم ذيل هذا المعنى بإخراج بقية البيت مخرج المثل السائر ليكثر دورانه على الألسنة فيحصل تجديد مدح الممدوح كل حين، والتنويه بذكره في كل زمان، حيث قال: أما إذا خرجت المبالغة عن حد الإمكان، وجرت مجرى الكذب المحض، فإنها مذمومة في الشرع وإن كان الشعراء يستبيحون مثل ذلك ولا يتحاشون الوقوع فيه. وقد أخبر تعالى عنهم بالكذب بقوله: {ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون} وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيدٍ: إشارة لذلك أيضاً. فمن المبالغة في الشعر المنتهية إلى حد الكذب قول البحتري: وصفها برقة الخصر وغلظ الساق حتى جعل حجلها الذي يدور على ساقها أوسع من حقابها لاذي يدور على خصرها؛ وأبلغ منه قول الآخر: فجعل الخلخال يجول في بدنها، ولكنه ليس من المدح في شيء لأن الخلخال لو صار وشاحاً للمرأة لكانت في غاية الدمامة حتى تصير في خلقة الحرو والهر. وأبلغ منه قول الآخر: فجعل صدره في السعة والرحب أوسع من الأرض، ونحوه قول الآخر: إلا أنه استعمل العرض في غير موضعه؛ إذ الدهر يوصف بالطول لا بالغرض، وهو قد جعل له طولاً وعرضاً؛ ويقرب منه قول أبي الطيب: فجعل كلامه هو الذي يدل عليه من شدة النحول. قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع: ومما يجري به التمثيل في باب المبالغة قول بعض العرب يذم إنساناً بقوله: فلان تكون له الحاجة فيغضب قبل أن يطلبها، وتكون إليه فيردها قبل أن يفهمها. وقول بعض بلغاء الكتاب: إن من النعمة على المثني عليك ألا يخلو من مساعد ولا يخشى من معاند، ولا تلحقه نقيصة المكذب، ولا يكرهه عوز الأوصاف بالتطلب، ولا ينتهي من القول إلى منتهى إلا وجد بعده مقتضى ووراءه منحى. وسيأتي من المبالغة في أوصاف الخيل والسلاح، وغيرها في قسم الأوصاف من ذلك ما فيه مقنع إن شاء الله تعالى. الصنف الرابع ما كان محالاً وهو ما لا يمكن كونه البتة، كقولك اتيك أمس، وأتيتك غداً، وما أشبه ذلك قال في الصناعتين: فإن اتصل الكذب بمحال صار كذباً محالاً، كقولك: رأيت قاعداً قائماً، ومررت بيقظان نائم، فإنه كذب للإخبار بخلاف الواقع، ومحال لعدم إمكان الجمع بين النقيضين، وقد تقدم في النوع الثالث أن أكثر الشعر مبني على الكذب، والاستحالة من الصفات الممتنعة والنعوت الخارجة عن العادة، وذلك في الكذب مما لا نزاع في كثرته في الشعر كما تقدم. أما المحال فإنه قليل الوقوع، نادر في النظم والنثر، معدود من المعايب، محكوم عليه بالرد. فمن ذلك قول عبد الرحمن بن عبد القس: قال العسكري: هذا من المحال الذي لا وجه له، قال: وهو شبيه بقول القائل: إذا دخل زيد الدار، دخل عمرو قبله، ثم قال: وهذا عين المحال الممتنع الذي لا يجوز، يريد أنه قد توقف كل من الأمرين على الآخر لأنه لا يوجد إلا به فيلزم الدور، وهو محال فيحكم فيه بالبطلان وقطع الدور. ومما يلتحق بالمحال وينخرط في سلكه تناقض المعاني واضطربها. فمن ذلك قول المسيب بن علسٍ في وصف ناقة: قال في الصناعتين: وهذا من المتناقض لأنه قال بخميصة، ثم قال موضع كورها قنطرة، وهي مجفرة الأضلاع، فكيف تكون خميصة وهذه صفتها! وقريب منه قول الحطيئة: زعم انه لم يزل يطوف حتى أصبح وأشرف على الكثيب، فمن أين صار الحصى بصفحتيه! وقول المرقش الأصغر: وكيف صحا عنها من إذا ذكرت دارت به الأرض!. الصنف الخامس ما كان غلطاً وهو أن تريد الكلام بشيء فيسبق لسانك إلى خلافه، كقولك: ضربني زيد وأنت تريد ضربت زيداً قال في الصناعتين: فإن تعمدت ذلك، صار كذباً، وهذا النوع أكثر وقوعاً من الذي قبله، قال: وقد وقع فيه الفحول من الشعراء. وأصناف الغلط في المعاني كثيرة، فمن ذلك الغلط في الأوصاف، وهي على وجوه: ومنها وصف الشيء بخلاف ما هو عليه وذكره بما ينافيه. فمن غريب هذا النوع قول الراعي في وصف المسك: فجعل المسك من قصب الظبي، وهو معاه، وجعل الظبي يعتلف الكافور فيتولد منه المسك، وهذا من طرائف الغلط. وقريب منه قول زهير يصف الضفادع: ظن أن الضفادع يخرجن من الماء مخافة الغرق، ونشوؤها فيه. وقريب منه قول ذي الرمة: فوصف الرءوس بالضلغ؛ قال ابن أبي فروة: ما أغفلت هذا، ولقد قلت لذي الرمة: ما علمت أحداً أضلع الرؤوس غيرك، قال: أجل. قال في الصناعتين: ومما لم يسمع مثله قط قول عدي بن زيد في الخمر: فوصف الخمر بالخضرة، والحريص: السحابة تحرص وجه الأرض أي تقشرها، ومنه سميت أحدى الشجاع في الرأس الحارصة لأنها تشق الجلد. ومنها وصف الشيء على خلاف المعهود والعادة المعروفة. فمن ذلك قول المرار: والمعروف أن الخيلان سود أو سمر، والخدود الحسان إنما هي البيض فأتى هذا الشاعر بقل المعنى؛ ومثله قول الآخر: قال أبو هلال العسكري: ويمكن أن يحتج لهذا الشاعر بأن يقال: تشبيه الخيلان بالكواكب من جهة الاستدارة لا من جهة اللون. ومن ذلك قول امرء القيس في وصف الفرس أيضاً: قال أبو هلال العسكري: فلو وصف أخس حمارٍ واضعفه، ما زاد على ذلك؛ وقول القائل: فجعل ضربها بالسوط من باب الظلم لأنها لا تحوجه إلى ذلك؛ ومن ذلك قول امريء القيس: شبه ناصية الفرس بسعف النخلة لطوها، وإذا غطى الشعر عين الفرس لم يكن كريماً. ومثله قول طرفة يصف ذنب البعير: فجعل ذنبه كثيفاً، طويلاً عريضاً؛ وإنما توصف النجائب بخفة الذنب ورقة الشعر. ومنها أن يجري في مقاصد المعاني على خلاف المألوف المعروف، وذلك قول جنادة: فإذا تمنى المحب للحبيب الموت فماذا عسى أن يتمنى البغيض لبغيضه؛ وقول الآخر: فذكر أن شدة الحب حملته على قتل محبوبته حتى تخاصمه في الحشر لطلب حقها، وشدة الحب لا تحمل إلا على الإكرام والبر، على أنها قد تكون تكرهه، فتترك حقها له حتى لا يطول وقوفها معه للخصام؛ وقول نصيب: والعاشق يلاطف قلب محبوته ولا يحاجه، ويلاينه ولا يلاجه.
|